لذين يجرفهم التيار
** يقول أحد الأمثال "من عاشَرَ قوماً أربعين يوماً، صار منهم". وسواء صحّ هذا المثل أو لم يصح، فإنه يدل على مدى تأثير التيار الخارجى على شخصية الإنسان. وفى نفس المعنى قال أحد الأدباء الكبار "قل لى من هم أصدقاؤك، أقول لك من أنت"... وهذا أيضاً يدل على تأثير الصداقة والعشرة في تشكيل طبيعة الشخص. وهذا ما نلاحظه في من يعيشون سنوات طويلة خارج بلادهم – في الغرب مثلاً – فإذا بهم قد تغيروا كثيراً عما كانوا قبلاً، واستطاع التيار أن يجرفهم... سواء في طباعهم أو عاداتهم أو طريقة تفكيرهم...
** وكثير من السيدات يتأثرون بما يسمونه (الموضة) المنتشرة، من جهة ملابسهن أو زينتهن، أو حتى في أسلوب الحفلات، أو في لكنة الألفاظ... كما أن بعض الشباب تصبح طباعهم بنفس نوعية أصدقائهم. وربما يتعلمون منهم التدرب على التدخين أو ما هو أكثر، وعلى ألوان من اللهو أو الطياشة، أو السهر خارج المنزل. وترى المجموعة كلها بنفس الأخلاق... كل اولئك قد جرفهم التيار ولم يقاوموه...
** التيار المحيط له تأثيره. وقد يكون خاطئاً. وفى نفس الوقت يكون ضاغطاً ويدعو إلى الخضوع له، هامساً في الأذن "الكل هكذا. فلماذا تشذ أنت، ويكون لك أسلوب خاص، كنشاز في لحن؟!
** ولا شك أن الشخص القوى يمكنه أن يرد على ذلك قائلاً "يجب علىّ أن أتبع الحق أياً كان موقعه. حتى إن كانت أغلبية المحيطين بى على خطأ، فإننى لا أسير في تيارهم. فإنه في أيام أبينا نوح، كانت غالبية الناس أشرارً وبقى هو باراً مع أسرته. وكأن شعاره قول الشاعر:
سأطيع الله حتى لو أطعتُ الله وحدى
** على أن الشيطان قد يدفع البعض دفعاً وراء التيار الخاطئ بطرق شتى: أحياناً يجعل الناس يجارون الخطأ من باب المجاملة، أو من باب الخجل، أو عن طريق التقليد، أو خوفاً من تهكم الناس ومن تعييرهم، أو نتيجة لضغط الظروف الخارجية وإلحاح الآخرين. أو يقول الفكر "هذه المرة فقط ولن تتكرر"! ثم تتكرر طبعاً... وربما شخص يجارى التيار خضوعاً لسلطة أقوى منه. وقد يندفع مع التيار جهلاً...
** أو قد يقول له الشيطان "هل من المعقول أن يكون كل الناس مخطئين، وأنت الوحيد على صواب" ؟! هل من المعقول أن كل هؤلاء لا يعرفون أين يوجد الخير والحق، وأنت الوحيد الذي تعرف؟! لذلك إتضع يا أخى.. (ويتضع الأخ) وينجرف في التيار..
وقد يسير في التيار نتيجة لصداقة أو صحبة خاطئة استطاعت أن تؤثر عليه وتجذبه إلى طريقها..
** وقد يخضع الإنسان للتيار نتيجة لضعف شخصيته، أو بسبب أن ارادته شبه معدومة أو لا إرادة له. وهكذا لا يقدر على المقاومة، أو يقاوم قليلاً ولا يثبت. بعكس الانسان القوى الإرادة.. ألسنا نرى أن كتلة ضخمة من الخشب – اذا القيت في البحر – يجذبها تيار الماء في أى اتجاه له. بينما سمكة صغيرة جداً تستطيع أن تقاوم التيار وتسبح حيثما شاءت، لأن لها إرادة وحياة... مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.
** والعجيب اننا نشاهد خطاة عديدين يكونون أقوياء في دفاعهم عن طريقهم الخاطئ، وفى سخريتهم من الأبرار الذين يرفضون اسلوبهم. ويظلون ينعتون الأبرار بشتى النعوت حتى يضعف اولئك امامهم ويخضعون! فالفتاة التي ترفض أن تلبس نفس الملابس الخليعة، يهزأون بها، ويصفونها بأنها (فلاحة)! والشاب الذي لا يسير في نفس التيار، يقولون عنه أنه (دَقّة قديمة) أى انسان غير متمدن! بينما يجب أن يكون الأبرار أقوياء في شخصياتهم، لا يشتركون في الأعمال الخاطئة بل بالحرى يوبخونها... فإن لم يستطيعوا توبيخ اولئك، فعلى الأقل لا ينجرفون في تيارهم.
** إن موسى النبى عاش في مصر زمناً وسط العبادات الفرعونية الكثيرة، ومع ذلك احتفظ بنقاوة ايمانه. ويوسف الصديق عاش فترة في بيت وضغطت عليه الخطيئة من الخارج، ولكنه قاوم ولم يستجب، لأن قوة العفة (اقرأ مقالاً عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات) التي كانت في قلبه، كانت أفوى من الإغراءات التي من الخارج.. وبنفس الروح عاش مؤمنون في أجواء وثنية أو ملحدة – وكانت ضاغطة – ولكنهم احتفظوا بايمانهم سليماً...
** لهذا كن شجاعاً وصاحب مبادئ قوية، ولك قيم تتمسك بها. وقاوم التيار المحيط بك اذا أخطأ. ولا تخضع للشيطان وكل نصائحه، بل وكل مخاوفه التي يلقيها في قلبك إن رفضته. وابعد عن الخطأ حتى إن رأيت كباراً يقعون فيه، أو إن رأيت الشر يهددك... وذا ما وجدت الذين يسيرون في طريق الحق قليلين، فلا يضعف قلبك بهذا السبب. بل اعرف ان هذه هي القلة المختارة أو هي الصفوة.
** ولو وقع غالبية المحيطين بك في خطأ، فإن هذا لا يجعل الخطأ صواباً. فإن الخطأ هو الخطأ، ووقوع الكثيرين فيه لا يبرره. والمعروف أن الصواب طريقه صعب، وقد لا يستطيعه كل الناس. بل تسير فيه القلة المتميزة بمبادئها وقيمها.
** إن وجدت الذين يعيشون في الفساد قد نموا وارتقوا وارتفع شأنهم، فاحذر أن تقتدى بهم. وإن جذبوك اليهم فابتعد. وإن رأيت غيرك قد استخدموا أسلوب التملق والرياء، واستطاعوا أن يصلوا به إلى ما يريدون، فلا تسايرهم أنت، ولا يقنعك اسلوبهم ولا نجاحهم الذي وصلوا اليه بطريق خاطئ. وإن بدا أن الناس قد تغيروا عن ذى قبل، وقيل لك إن هذه هي لغة العصر، فقل: أما انا فلغتى التي أتمسك بها هي لغة الضمير الصالح، وهى لغة الحق.
وإن ضعفت مقاومتك للتيار، فاطلب معونة من الله. وثق أنه سوف يقويك، ولا يتركك تجاهد وحدك.
من مقالات البابا شنودة